فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الفراء: السَّكَر: الخمر نفسها، والرزق الحسن: الزبيب والتمر وما أشبههما، ولا يقال: الخمر محرمة، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام؟ لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة، وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة، وأجاب الرازي بجواب ثان.
وهو: أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها، والخمر من أشربتهم، فهي منفعة في حقهم.
قال: ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضًا على تحريمها، وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أن لا يكون السَّكَر رزقاَ حسنًا، ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال: الرجوع عن كونه حسنًا بحسب الشريعة، وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة. انتهى.
تنبيه:
قال ابن كثير: دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور.
وفي فتح البيان قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر. كما في الكشاف.
قالوا: إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر. انتهى.
وليس هذا موضع بسط ذلك. قال ابن كثير: وقد ناسب ذكر العقل ها هنا في قوله تعالى: {لِقَومٍ يَعقِلُونَ} فإنه أشرف ما في الإنسان، ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة؛ صيانة لعقولها. انتهى.
ولما بيَّن تعالى أن إخراج الألبان من النعم، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، دلائل قاهرة وبينات باهرة، على أن لهذا العالم إلهًا واحدًا قادرًا مختارًا حكمًا؛ أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضًا بقوله سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} المراد من الوحي: الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات، وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتًا تأوي إليها في ثلاثة أمكنة: الجبال، والشجر، وبيوت الناس، حيث يعرشون، أي: يبنون العروش، جمع {عرش} وهو البيت الذي يستظل به كالعريش، وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة: الجبال والشجر وبيوت الناس، وأكثر بيوتها ما كان في الجبال، وهو المتقدم في الآية، ثم في الشجر دون ذلك، ثم في الثالث أقل.
فالنحل إذًا نوعان: جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس، وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا، ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أولًا. فإذا استقر لها بيت خرجت منه، فرعت، وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي: من كل ثمرة تشتهيها، حلوها ومرها. فالعموم عرفي، أو لفظ {كُل} للتكثير، أو هو عام مخصوص بالعادة، ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة.
لطيفة:
إنما أوثر {من} في قوله تعالى: {مِنَ الجِبَالِ} إلخ.، على {في} دلالة على معنى التبعيض، وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها. نبه عليه الزمخشري.
قال الناصر: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض {من} المتعلقة باتخاذ البيوت، بإطلاق الأكل. كأنه تعالى وكلَ الأكل إلى شهوتها واختيارها، فلم يحجر عليها فيه، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض؛ لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع، ولهذا المعنى دخلت {ثم} لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات. كما تقول: راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أي: شيء شئت. فتوسط {ثم} لتفاوت الحجر والإطلاق. فسبحان اللطيف الخبير.
وقوله تعالى: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها، أو على حقيقتها. أي: إذا أكلت الثمار في المواضع النائية، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك، لا تتوعَّر عليك ولا تضلين فيها، و{ذللًا} جمع ذلول، حال من {السبل} أي: مذللة ذللها الله لك وسهلها. فهي تسلك من هذا الجو العظيم، والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة. ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ} استئناف، عدل به عن خطاب النحل؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى؛ تعديدًا للنعم، وتنبيهًا على العبر، وإرشادًا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف، وسمي العسل شرابًا؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر؛ لاختلاف ما يؤكل من النَّور أو مزاجها: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض، وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين، وقلَّ معجون من المعاجين، لم يذكر الأطباء فيه العسل، وقد قام الآن مقامه السكر، لكثرته بالنسبة إليه، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال: «اسقه عسلًا» فذهب فسقاه عسلًا، فقال: يا رسول الله! سقيته عسلًا ما زاده إلا استطلاقًا. قال: «اذهب فاسقه عسلًا» فذهب فسقاه عسلًا ثم جاء فقال: يا رسول الله! ما زاده إلا استطلاقًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلًا. فذهب فسقاه عسلًا فبرأ».
قال ابن كثير: قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات. فلما سقاه عسلًا وسكر حارّ تحللت فأسرعت في الاندفاع، فزاده إسهالًا، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره، وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن، استمسك بطنه، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي العناية للشهاب هنا، قصة عن طبقات الأطباء فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه، وانفراده بألوهيته، وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء، من وراء البيداء، فتقع على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابًا، وتلفظه شرابًا.
قال الحجة الغزالي في الإحياء: انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتًا، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء. ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقدار، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصًا وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة؛ لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرًا في نفسك، وفارغًا من هم بطنك وفرجك، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك. ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتًا من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديرًا ولا مربعًا ولا مخمسًا، بل مسدسًا لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه. فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل. فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة. ثم لو بناها مستديرة لبقي خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير. ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، وهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل، على صغر جرمه، ذلك؛ لطفًا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه؛ ليهنأ عيشه. فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه، وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضًا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية، وربما هلك الملسوع، وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج، وفي طبعه أيضًا النظافة. فلذلك يخرج رجيعه من الخلية؛ لأنه منتن الريح، وهو يعلم زماني الربيع والخريف، والذي يعمله في الربيع أجود، والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافيًا عذبًا، يطلبه حيث كان، ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة، وإذا قلَّ العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفًا على نفسه من نفاذه؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور، وربما قتلت ما كان منها هناك.
قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا. قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالًا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلم النشيط الكسل.
والنحل يسلخ جلده كالحيات، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة، ويضره السوس، ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح، وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن بأخثاء البقر، وفي طبعه أنه متى طار من الخلية، يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه. كذا في حياة الحيوان.
وذكر الإمام الغزالي أيضًا في كتاب الحكمة في خلق المخلوقات: أن الله تعالى جعل للنحل رئيسًا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها. فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه؛ قتل أحدهما الآخر، وذلك لمصلحة ظاهرة، وهو خوف الافتراق؛ لأنهما إذا كانا أميرين، وسلك كل واحد منهما فجًَّا، افترق النحل خلفهما. ثم إنها أُلهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار. فيستحيل في أجوافها عسلًا. فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد، من شراب فيه شفاء للناس، كما أخبر سبحانه وتعالى، وفيه غذاء وملاذ للعباد، وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم. فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها، وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس. ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها، لتوعي فيه العسل وتحفظه. فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح. فانظر في هذه الذبابة، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها! ثم انظر لخروجها نهارًا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل، ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدًا عن مواضع العسل، وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه.
قال أبو السعود: ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل؛ أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك، وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع: الأولى: سن النشوء والنماء، والثانية: سن الوقوف وهي سن الشباب، والثالثة: سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة، والرابعة: سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة، فقال سبحانه: {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ} أي: أنشأكم من العدم: {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي: أضعفه وأردئه وهو الهرم، وقوله تعالى: {لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} اللام للصيرورة والعاقبة. أي: فيصيرُ، إن كان عالمًا جاهلًا، فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته.
قال في العناية: وكونه غير عالم بعد علمه، كناية عن النسيان؛ لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه، فلا يعلم بعد ما علم. أو العالم بمعنى الإدراك والتعقل، والمعنى: لا يترقى في إدراك عقله وفهمه؛ لأن الشاب في الترقي، والشيخ في التوقف والنقصان.
وفي الكشاف: ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان، وأن يعلم شيئًا ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلمه إن سئل عنه، وقيل: لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئًا، وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول، و{شيئًا} منصوب على المصدرية أو المفعولية، وجوَّز فيه التنازع بين {يعلم} و{علم} وكون مفعول {علم} محذوفًا لقصد العموم. أي: لا يعلم شيئًا ما بعد علم أشياء كثيرة {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} أي: جعلكم متفاوتين فيه، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم، وهم بشر مثلكم: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ} أي: في الرزق، وهم الملاك: {بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي: بمعطيهم إياه: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} أي: فيستووا مع عبيدهم في الرزق.
والآية مثلٌ ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء. أي: أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم. فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم؟ كما قال في الأخرى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الروم: 28].
{أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} أي: فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم. أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم؟! فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل.
{وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ} أي: في جنسكم وشكلكم إناثًا أزواجًا لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} أي: بنات وأولاد أولاد: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} وهو منفعة الأصنام وشفاعتها: {وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} أي: في إضافة نعمه إلى الأصنام، أو في تحريم ما أحل لهم.
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا} أي: من مطر أو نبات و{شيئًا} نصب على المفعولية من {رزق} إن كان مصدرًا، وإن جعل اسمًا للمرزوق فـ {شيئًا} بدل منه بمعنى قليلًا، و{من السماوات} متعلق بـ {يملك} على كون الرزق مصدرًا. أو هو صفة لـ {زرقًا}: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أي: أن يتملكوه. أو لا استطاعة لهم أصلًا. أو الضمير للمشركين. أي: ولا يستطيعون مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد؟!.
{فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ} أي: فلا تجعلوا له أندادًا وأمثالًا، والضرب للمثل فيه معنى الجعل، والأمثال جمع {مثل} بكسر فسكون على هذا، وقيل: جمع {مَثَل} بفتحتين، والآية استعارة تمثيلية للإشراك به. حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه، بمنزلة ضارب المثل. فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة، وذاتًا بذات. كما أن ضارب المثل كذلك. فكأنه قيل: ولا تشركوا، وعدل عنه لما ذكر؛ دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفًا وذاتًا، وفي لفظة {الأمثال} لمن لا مثال له، نعيٌ عظيم على سوء فعلهم. كذا في شرح الكشاف.
{إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي: يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه، ولو علمتموه لما جرأتم عليه، فهو تعليل للنهي. أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] وفي العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67] للسائل أن يسأل عن ثبوت الضمير المنفصل المبتدإ في قوله: {هُمْ يَكْفُرُونَ} في آية النحل وسقوطه من آية العنكبوت مع أن المعنى متحد والعبارة متكررة أعني قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ} الآية، فما وجه ذلك؟